الذكرى الرابعة:
في حصة يوم الأربعاء؛ لم أحضر، فغضبت
مني جدتي غضباً صعباً، ولم يكن عندها ولا عندنا هاتف للاتصال والاستفهام، فكان لا
بدّ من الحضور إلينا لتوبخني على تخلّفي؛ خوفَ شرود البنات من حضور الدرس!
كان سبب تخلّفي عن حصة الأربعاء أنّ
والدتي لم تجهّز لي وجبة غداء مناسبة!
وأعني بـ(مناسبة) أنها تناسب مزاجي في
ذلك اليوم، فأنا أعترف بأنني كنت ولا أزال حتى هذا اليوم مزاجياً، ليس لي قانون ثابت، لا في الطعام والشراب، ولا في النوم، ولا في
الرياضة، ولا في العبادة، ولا في القراءة، ولا في الكتابة، ولا في الزيارات، ولا
في شيء أبداً!
المهمّ أنّ الوالدة لم تكن قد أعدّت غداءً خاصاً بي؛ لأنها في
الحقيقة لا تعرف ما أريد!
ألقيتُ السلام على والدتي وقبلت يدها ويد جدّي الذي لا يغادر
المنزل إلا إلى الصلاة والمضافة تقريباً.
ثم ناديتها: أمي.. أريد أن أتغدى فأنا جائع كثيراً!
قالت: هل صليت الظهر؟
قلت: لا! أتغدى ثم أصلّي؛ حتى أعرف ما أقول في الصلاة!
نهرني جدي بعينيه فقط، فانسللت سريعاً، فتوضأت وصليت اثنتي عشرة
ركعة مع أنني كنت أصلي ركعتين سنة قبلية ومثلها بعدية إذا صليت وحدي؛ لأن شيخي
نايف النوشي قال لي: هكذا هي السنة المؤكدة، والركعتان الأخريان قبل وبعدُ نافلة!
لكنّ جدي كان يصلي أربعاً يفصل بين كل اثنتين، وبعد الظهر
مثلهما ويقول:
هذا أثبت وأصح عندنا معشر الشافعية!
حين انتهيت من الصلاة؛ شعرت كأنّ الأرض تدور بي من الجوع؛ لأن
طعام الفطور لم يعجبني، فذهبت إلى المدرسة من دون فطور، وإن ادّعيت أنني أفطرت!
كان من عادة أسرتنا أن وجبة الطعام الرئيسة؛ هي العَشاء، وهي
تقدّم عقب صلاة المغرب مباشرة، ويجب أن تنتهي عند أذان العشاء؛ لنلحق صلاة العشاء
في المسجد، فقد كان جدي يتشدد معنا نحن الأولاد بحضور الفجر والعشاء، ولا يكاد
يقبل عذراً في التخلف عن واحدة منهما.
أحضرت لي والدتي وجبة صغيرة من (المحشي) ومن (الكبة) وأحضرت لي
برتقالة وتفاحة، وقليلاً من الجوز واللوز المقشور، وقليلاً من اللبن.
لم أجد في نفسي رغبةً لشيء من الطعام الموجود، لكنني لا أجرؤ
على التلفظ بحرف، فخرجت من غرفة جدي التي كانت غرفة العائلة كلها!
فهمت والدتي أنني ساخط، فحملت الطعام وتبعتني إلى غرفتها،
وقالت: ما لك يا ولدي؟! والله أنت تحب المحشي وتحب الكبة!
فقلت: كل يوم محشي؟ كل يوم كبة؟ لا أريد ذلك!
فعددت لي أنواعاً يمكن أن تصنعها لي، فرفضت كل ذلك!
كانت والدتي تعرف مزاجيتي، فتلطفت بي وقالت: كما تريد هذا
الطعام كله غير طيب ماذا تريد أنت؟
قلت: أريد أنا أن أقلي بيضتين بسمن بلدي!
قالت- وقد تنفست الصعداء- غالي وطلب رخيصاً!
وأشعلت (بابور الكاز) بسرعة، وأحضرت لي المقلاة، وقالت: ضع ما
تريد من السمن (الخرستان مفتوح) وعنبر السمن مفتوح! (وكان لكل واحد منهما قفل في
أصل صناعته).
ذهبت ووضعت ملعقة سمن خشبية كبيرة، وخرجت إلى المطبخ المشترك
وقليت البيضتين على مزاجي، لكني رأيت السمن كثيراً جدّاً، فحملت المقلاة إلى مكان
الجلي، وصببت السمن كلّه في المجلى!
في هذه اللحظة دخل جدي، فرآني أسكب السمن في بالوعة المجلى،
فتأوّه بحرارة وقال: الآن تسكب السمن في البالوعة؟! والله ستأتيكم أيام تتشهون
فيها على رائحة السمن البلدي، وغادر المطبخ إلى غرفته!
كلام جدي صدّ نفسي عن الطعام من جهتين:
الأولى: أنّ قوله هذا عددته تأنيباً وتوبيخاً كبيراً، وأنا
المدلل جداً لديه.
والثانية: أن جدي لم يكن ليقول هذا الكلام، لولا أنني ارتكبت
حراماً!
سألت والدتي: لماذا قال جدي هذا الكلام، رمي قليل من السمن، هل
يختلف عن رمي كأس من الماء؟
قالت والدتي: يا ابني كُلِ الآن، حتى لا تتأخر عن المدرسة، ولا
تنس ستذهب إلى جدتك لحضور درسها!
لم أردّ عليها شيئاً، بل ذهبت إلى غرفة جدي، وسألته: جدي!
فلم يردّ عليّ!
كرّرت ذلك ثلاث مراتٍ، فلم يردّ عليّ، فجئت إليه، وقبّلت يده
ووضعتها على رأسي، وقلت: سامحني جدي، ما ذا فعلتُ أنا حتى زعلتَ مني؟
فقال: ماذا فعلت؟! تصب السمن في البالوعة، وتقول: ماذا فعلت؟
قلت له: وهل هذا حرام؟
فقال: ألا تعلم حتى الآن أنه حرام يا عداب؟ رمي كسرة خبز حرام،
إراقة كأس من الماء من دون حاجة حرام، حفظ النعمة واجب شرعيّ!
فاستأذنته، ورجعت إلى أمي، وقلت لها: قال لي جدي: هذا الطعام
حرام لا يجوز أن آكله!
قالت: جدك قال لك هذا؟
قلت: قال لي: صبّ السمن في البالوعة حرام، وأنا طبخت البيضتين
بهذا السمن فصار هذا الطعام كله حراماً؛ لأنه لا يكون شيء نصفه حرام، ونصفه حلال!
قالت: يا ابني! الإسراف هو الحرام، التبذير هو الحرام، يعني لو
أكلت البيض بالسمن الذي رميته؛ كان حلالاً، وهذا الطعام كله حلال، إلا الذي رميته!
فلم أقتنع إلا أنّ الطعام كله صار حراماً، ورفضت أن آكله!
قالت: فماذا تريد إذاً؟
قلت: آكل كبّة ولبن!
فأكلت كبة ولبناً فعلاً، لكن من شدة جوعي؛ لم أتناول إلا القليل
حتى لعبت نفسي، وتقيأت، وتعبت فعلاً!
استلقيتُ لأرتاح قليلاً، فنمت، فلم توقظني والدتي إلا بعد أن
عاد جدي من صلاة العصر!
حين أيقظتني قالت: قم صلّ العصر!
قلت: أيّ عصرٍ، هل أنا نمت؟ ورحت ألوم والدتي كيف تركتني أنام،
حتى ذهب عليّ دوام المدرسة، وضيعت الذهاب إلى درس جدتي سُكينة!
هدّأت والدتي من غضبي، واحتالت عليّ حتى تغديت البيضتين بعد
تسخينهما مع لبن غنم من صنع البيت، وسقتني كوباً كبيراً من الزهورات الساخنة، زعمت
أن بطني لا تُشفى إلا بذلك!
عقب انتهائي من الطعام؛ قُرع باب بيتنا بشدّة، ومن النادر أن
يقرع أحدٌ باب دارنا بهذه الصورة!
أسرعت في فتح الباب، وإذا بشيخي عارف النوشي يقول لي: توضّأ
وتعال أنا أنتظرك في (الكُتّاب).
أخبرت جدي بما قاله الشيخ عارف، فقال: افعل ما قال لك، ولا
تتأخر!
قلت: أنا متوضئ!
قال: أطع الشيخ!
توضأت واستأذنت والدتي، وذهبت إلى كُتّاب الشيخ عارف المقابل
تماماً لبيتنا!
فقال لي: سمعت أنك تعلّم في مجلس جدتك الشيخة سكينة؟!
لم أعرف بماذا أجيبه؛ لأنني لا أعرف إن كان هذا صواباً أم خطأً
في نظره!
فنظرت إلى وجهه لأتعرف إلى رضاه من سخطه، فلم أر شيئاً فأطرقت
وسكتّ!
قال لي: فسّر لي سورة الكوثر!
فقلت له: منكم نستفيد سيدي؟ (هكذا علمونا أن نقول في حضرة
المشايخ).
فقال: فسر لي سورة الكوثر، هكذا طلب الشيخ!
فسرت له سورة الكوثر كما تعلمتها منه تماماً.
فقال: ما السورة التي فيها نَسَبُ ربنا تبارك وتعالى؟
فقرأت: (بسم الله الرحمن الرحيم * قل هو الله أحد) إلى نهايتها.
قال: أسمعني سورة النبأ!
فأسمعته إياها بنصف تجويد، من أجل السرعة!
فغضب غضباً لم أشهده بمثله، وقال: هكذا تعلّم النساء؟ هذه
القراءة حرام لماذا؟
فقلت له: أستغفر الله العظيم!
قال: لماذا حرام؟
فقلت: والأخذ بالتجويد حتم لازم ... من لم يجوّد القرآن آثم؟
قال: لم تجبني بعد، لماذا حرام؟
فقلت: لأنه به الإله أنزلا ... وهكذا منه إلينا وصلا!
فقال: أيوه هكذا.. هذا هو الجواب على سؤالي.
انظر يا عداب! أنت الآن شابّ، إذا استطعت أن تدرس الأولاد بدل
النسوان أفضل، لكن على كلّ حال، لا تعلّم إلا جزء عمّ!
قلت: حرام أعلم البنات!
قال: هذه السنة علمهنّ، أما السنة القادمة؛ فلا! ولا تنس
التحضير ليوم الجمعة انظر أمك ماذا تريد منك! وكانت هذه الجملة تعني عند الشيخ:
انصرف!
حين اقترب المغرب؛ رافقت جدي، فصليت معه في مسجد (باب البلد)
ورجعنا إلى المنزل، فوجدت جدتي سُكينة تنتظرني، وقد أظهرت الغضب، وقالت: كم غلطاً
عَمِلتَ اليومَ؟
أخذت يدها لأقبلها، فسحبتها مني، وقالت: أنا زعلانة منك أصلاً!
فقلت: كنت مريضاً، ونمت، واسألي أمي!
فقالت: حدثتني أمك أنك عذّبتها من أجل الغداء، ولأنك عذبتها؛
عاقبك الله فمرضت!
فتُب إلى الله، وعاهدني أن تأكل ما حضر، ولا تحيّر أمك في كلّ
يوم بطعامك!
نظرتُ إلى والدتي معاتباً؛ لأنها حدثت جدتي بذلك!
فقالت جدتي: لماذا تنظر إلى أمك هكذا؟ لو كان والدك موجوداً هل
تتجرأ أن تفعل ما تفعله كلّ يوم!
هذا والدك على الباب، وسأحدثه بكل ما فعلتَ على العَشاء، حتى
يحاسبك بما تستحقّ!
فهرعت إليها وأنا أبكي، وقلت: لا يا جدتي، والله الآن يذبحني،
حرام عليك!
فقالت: حرام عليّ أن أقول لأبيك ليربيك، وليس حراماً عليك أن تتكبر
على المحشي والكبة والجوز واللوز واللبن والبيض؟
أليس حراماً عليك أن تلقي السمن البلدي في البالوعة، ثم لا تأكل
حتى عاقبك الله فمرضت؟ فلم تذهب إلى المدرسة، ولم تأت إليّ، وأغضبتني وأغضبت جدك
وأغضبت أمك، والآن سيغضب أبوك، فمن بقي راضياً عنك؟!
إذا وعدتني أن تأكل الموجود الحاضر، وتطيع أمك؛ فلن أكلّم والدك
الآن، لكن إذا بقيت هكذا؛ فسأخبره في المستقبل!
فقلت برعب شديد: ستي والله يذبحني، لا تقولي له!
فقالت: حتى لو ذبحك، فما حاجة بقائك حيّاً، إذا كنت تتعب وتغضب
كلّ من حولك، وكأنك صبيّ رضيع! بينما أنت شاب! (يا عيب الشوم، لست شاباً فقط، بل
يقولون لك: الشيخ عداب)!
المهمّ اتّفقنا أن آكل في اليوم التالي ما يكون موجوداً، وألا
أرفع صوتي على صوت والدتي، ووعدتها أن أواظب على درسها حتى تستغني عني!
لكنني في الحقيقة لم أستطع الالتزام بترك المزاجية، بيد أنّ
كلام جدتي وتخويفها إياي من أبي بقي حاضراً في كل مرة أتأفف فيها عن تناول طعام
الغداء!
فكنتُ ألين أمام والدتي قليلاً، وكانت والدتي تلحظ هذا، فتحاول
إرضائي بكل ما تستطيع!
رحمهم الله جميعاً كم عانوا في تربيتي، فأنا أشهد أن تربيتي كانت أصعب من
تربية أولادٍ وبناتٍ كثيرين، وقد كنت عصبياً وعنيداً إلى درجة تفوق الوصف.
جزاهم الله عني كلّ خير،
ورفع منزلتهم لديه، إنه هو حسبنا ونعم الوكيل!