الأربعاء، 8 مايو 2013

حكايات جدتي سكينة/ الحكاية الخامسة


الذكرى الخامسة:
في يوم الأحد التالي انتهى دوامي قبيل أذان العصر، فسارعت الخطو إلى منزل جدتي البعيد نسبياً عن بيتنا وعن مدرستي، ولم أصل إلى بيتها إلا بعد الانتهاء من صلاة العصر، فلم أجد في البيت أحداً!
فهُرعت إلى الجامع الكبير، فوجدتها تمشي مسرعة هي وخالتي (أم أحمد) وهي أصغر خالاتي.
فاعتذرت إليها، فلم تعذرني، رغم أنّ العرق كان يتصبب مني، ونحن في بداية الشتاء!
وقالت: لو ركبت الباص كان أنزلك على باب البيت، فلماذا جئت ماشياً؟
قلت لها: نسيت مصروفي في البيت، فلم يكن معي (فرنك)!
قالت: إذا انتهينا من الدرس؛ سأعطيك فرنكين، وكلما حضرت الدرس؛ سأعطيك فرنكين أجرة الطريق!
رأيت أن لا أردّ عليها شيئاً، حتى ينتهي الدرس حتى لا أعكر مزاجها.
صليت العصر إماماً بجدتي وخالتي في قسم النساء، فصلت بصلاتنا أكثر الحاضرات ثم جلست لدرس البنات، وأنا أصغر منهن جميعاً، فعاتبنني عتاباً مرّاً على غيابي الحصة السابقة، فاستحييت، ولم أردّ عليهن شيئاً، وإنما حملقت عينيّ فيهنّ فسكتن، وبدأ الدرس.
جلست معي في حلقتي خالتي (أم أحمد) وصارت تراقبني في كيفية إعطائي الدرس، وتولّت عني إجابة البنات على أسئلتهنّ الكثيرة في التجويد والتلاوة، فأنا كنت أجيد التلاوة فقط، وأحفظ تحفة الأطفال والمقدمة الجزرية، لكني لا أعرف الإجابة منهما على الأسئلة في كثير من الأحيان.
انتهت الحصة بسلام، وقد راجعنا فيها سورة الفاتحة، وأجدنا تلاوة سورة الناس والفلق والصمد تماماً.
كان إنتاج هذه الحصة أكبر من سابقاتها، بسبب وجود خالتي التي تتولى الإجابة بسرعة.
انتهى درس جدتي، وجاءت إليّ كعادتها، وسألت البنات: كيف كان درس اليوم؟
قلن: ممتاز!
فقلت أنا على براءتي: ستي خلي خالتي تعلّم للبنات، فهي تعرف أكثر مني بكثير!
فقالت: قم الآن، ونتفاهم فيما بعد!
زرنا مقصورة المدافن، ثم صلينا المغرب في المسجد، وخرجنا بعد الصلاة إلى بيت جدي.
قالت جدتي: أنت سألتني أن تقرئ خالتك البنات، فهي تعلّم نساء الحيّ في البيت ثلاث حصص في الأسبوع، وإذا خرجت هي من البيت؛ فلا يبقى في البيت أحد فمن يخدم جدك وخالك، وإذا جاءت أمك أو إحدى خالاتك، فلم تجد في البيت أحداً، فماذا تصنع؟ إنها سترجع إلى بيتها، وكلهن بيوتهن بعيدة!
لكن من المعيب أن تقول لي في الدرس: خلي خالتي تعلّم البنات، فهي تعلم أكثر مني، لا يصح أن يقول المعلم: أنا لا أعرف أمام طلابه.
ثم أنا أريدك أن تتعلم كيف تعلم القرآن الكريم، ألا ترى كم استفدت من أسئلة البنات عندما أجيبهنّ، وعندما أجابتهنّ خالتك؟
كنت أريد أن أقول لها: وأنا يعلمني شيخي عارف النوشي شيئاً فشيئاً كما قال لي، حتى أحفظ فلا أنسى، لكنني رأيتها غاضبة، فسكتّ!
وصلنا إلى البيت، فطلبت مني الدخول، لكني رفضت لأنني تأخرت، وسيعاقبني الوالد لذاك التأخر.
فمدّت يدها إلى جيبها وأخرجت فرنكين وأعطتني إياهما، فقلت لها: أبي لا يرضى، ولا أستطيع أن أكتم عنه شيئاً.
ألحّت عليّ كثيراً على باب البيت، لكني رفضت رفضاً قاطعاً، وألقيت تحيةَ السلام، وانصرفت!
وصلتُ جامعَ باب البلد عند أذان العشاء، فدخلت وصلّيت بجوار جديّ إبراهيم، فقال لي: كيف حال جدتك سكينة؟
استغربت من جدي هذا السؤال جدّاً؛ إذ علّمنا هو أن الرجل لا يسلم على غير محارمه وزوجته، لكنني سكتّ، ولم أردَّ شيئاً!
كأنّه لحظ استغرابي، فقال: جدتك أمّ سعيد من الصالحات اللاتي يرجى دعاؤهنّ، فهي من أهل القرآن، وسمعت من شيخنا سعيد الجابي عليه رحمة الله أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أهل القرآن؛ هم أهل الله وخاصّته)
انظر يا عداب! جدك أبو سعيد لا يحبّ العلم أبداً، ولولا جدتك؛ لما كانت أمك وخالاتك كلهن من حفظة القرآن العظيم.
ثم هي من النادرات اللواتي يعلمن النساء الخير في مجتمع جاهلٍ غلبت عليه الأمية منذ مائة سنة، الله يكثر من أمثالها بين المسلمات اليوم!
وصلنا إلى البيت، فدخل هو إلى المضافة، وأخذت حمارته البيضاء وربطتها على معلفها، وذهبت إلى غرفة والدي فلم أجده هناك، فسألت والدتي، فقالت: ذهب إلى صلاة العشاء، ولم يرجع.
وسأتني عن جدتي سكينة، وعن خالتي (أم أحمد) فنقلت سلامهما إليها، وشرعت في كتابة واجباتي المدرسية، حتى غمضت عيناي ونمت!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق