الأربعاء، 8 مايو 2013

حكايات جدتي سكينة/ الحكاية الثانية


الذكرى الثانية:
كان الدرس الأول الذي حضرته لجدتي يوم الأربعاء، ودرسها الآخر يكون يوم الأحد.
حضرت يوم الأحد إلى منزل جدتي، وصحبتها إلى الجامع الكبير، وبعد انتهاء صلاة الرجال جئت إلى مقصورة النساء، وكانت جدتي قد عزلت لي تلك الصبايا الصغيرات، لكنهن هذه المرة صرن ثماني بنات!
في الطريق من المنزل إلى البيت أرشدتني جدتي أربعةَ إرشادات لا زلت أفيد منها:
الأول: قالت لي: لا تسمح للفتيات بالثرثرة، لكن ليس بالصراخ والضرب، وإنما بجذبهن إلى سماع قراءتك فقراءتك جيدة، وصوتك جميل.
فإذا رأيت منهنّ مللاً أو كسلاً مثلاً، فقل لهن: استمعن إلى قراءتي السورة التي نحن بصدد تعلّم تلاوتها فاقرأها.
وزيادة في شدهن إلى سماع كلامك أشركهن في التعليم.. كيف؟
أنت ولله الحمد تحفظ معاني الكلمات الغريبة في السورة، فتوجه إلى أكثرهن مشاغبة وقل لها مثلاً: ما معنى غير المغضوب عليهم؟ وما معنى الضالين؟ وما معنى الصراط المستقيم؟ فستراها خجلت وسكتت، وستخاف الباقيات من الإحراج، فيسكتن.
ثم تابع مباشرة تعليمهن السورة التي كنت تعلمهن إياها.
وإذا سألنك عن معنى كلمة خارج جزء (عمّ) فقل لهنّ: لا نريد تشتت الذهن خارج نطاق درسنا، يمكن أن يكون الجواب بعد انتهاء الدرس، ثم بعد انتهاء الدرس؛ لا تجب على سؤال البنت، ولا حرج أن تقول لها خارج الدرس: لا أعرف.
والثاني من الإرشادات، ما قالته لي: البنات يرينك صغيراً جداً، وكلهن أكبر منك، وربما جعلهن هذا لا يقرأن جيداً لظنهن أن ما تقوله لهنّ غير صحيح!
فإذا حصل شيء من هذا؛ فقل لهن مثلاً: شيخي الشيخ عارف النوشي قال: الإدغام حركتان، والغنة حركتان، فتكون الغنة مع صوت الإدغام بطول المدّ الواجب المتصل أربع حركات!
فإذا علمن أنك تقرأ على شيخ؛ فإنهن سيحترمنك أكثر، وسيستفدن منك أكثر.
هنا قاطعتها وقلت لها: وما حاجتي أنا أن أقرأهنّ، فأنا أخجل من البنات، ولا أحب الجلوس بينهنّ؟
قالت: لأنه ما عندي الآن غيرك يعلمهن، وخالك سعيد صار كبيراً؛ لا يصحّ أن يجلس بين الفتيات ويعلمهن!
قلت لها: بلى! أنت قلت لي: إن الشيخ فقط يجوز له الجلوس بين البنات ليعلمهن، وشيخي نايف النوشي يعلمني درس الفقه لي ولابن عمي محمد سعيد، وابن عمتي أحمد، ولبنات ابنه الثلاث!
فقالت بهدوء بالغ: نحن الآن اقتربنا من الوصول، وفيما بعد أشرح لك سبب ذلك، لكن استمع إليّ فلم أنهي كلامي!
فكان الثالث من الإرشادات: حين تشير إلى البنت لتقرأ، فلا تنظر إليها، ولا إلى فمها كيف يتحرك بالتجويد؛ لأنها تخجل إذا نظرت إليها، وإذا خجلت؛ لم تحسن تجويد الكلمات، ولكن انظر إلى المصحف الذي بين يديك وإن كنت تحفظ السورة.
والرابع من الإرشادات: إذا أشكل عليك أمر في التجويد، لم تتذكره؛ فقل لهنّ: بعد الدرس نسأل عنه الشيخة سُكينة لكن لا يصح أن نسألها الآن حتى لا نقطع عليها درسها من جهة ، وحتى لا يضيع علينا وقت الدرس من جهة ثانية.
بدأت الدرس بتلاوة سورة الفاتحة، وكنت أظن أننا سننجز الفاتحة وسورة البروج في تلك الحصة!
لكن الحقيقة أننا أنجزنا سورة الفاتحة كاملة فقط، لكن كيف؟
كان شيخنا عارف النوشي يقرأ علينا السورة المراد إتقان تلاوتها تمهيداً لحفظها ثلاث مراتٍ بهدوء وإتقان ثم يأمر كلّ اثنين متجاورين أن يستمع كلّ منهما إلى قراءة الآخر، ويصحح له؛ لأنّ بعض التلاميذ أسرع استفادة من الشيخ من بعض!
ففعلت الأمر نفسه، وصرت أنتقل من مجموعة إلى أخرى حتى اقتنعت أنهن أدّين كلّ ما عندهن، ولم يبق إلا تصحيحي أنا.. فقرأت كلّ واحدة الفاتحة ثلاث أو أربع مراتٍ عليّ، وبعضهن قرأنها خمساً، فانتهينا من إحسان ولا أقول: إتقان الفاتحة مع صوت جدتي: هيا يا شيخ عداب، انتهى الدرس!
وقفت جدتي على حلقتنا وسألت البنات: كيف كان الدرس اليوم؟ قلن: ممتاز لقد تعلمنا قراءة الفاتحة ومعانيها.فقالت جدتي: ممتاز جداً! يعني من الآن فصاعداً أصحبت صلاتكن صحيحة، فالحمد لله.
والتفتت إلى إحدى الطالبات وقالت لها: اقرئي الفاتحة حتى أسمع قراءتك الجميلة!
فقرأت البنت، وسُرّت الشيخه سكينة بقراءتها، وصحبتني إلى مدفن جدودي الأيوبيين في جانب المسجد، وقالت لي: هل زرت قبر جدك المظفر؟ قلت لها: طلبت من جدي محيو أن أزوره، فقال لي: بعدك صغير، أخاف أن تفزع من رؤية القبور!
فتحت جدتي الباب بمفتاح كبير كان معها، ودخلنا إلى الحجرة التي دُفن فيها الملك المفضل وأبوه الملك المظفر وأمه الخاتون فاطمة!
وتلك الحجرة التي لم يكن يستطيع أن يدخلها مخلوق إلا بموافقة جدي محيي الدين النشتر، أو أخيه الوجيه عبدالقادر الذي كان ينادى من أهل الحيّ (مير قادر) وكان له احترام عظيم من أهل أحياء الباب القبلي، والجراجمة، والمدينة القديمة؛ لأنهما وحدهما من يمتلك تلك المفاتيح في حماة.
وبلغني أنّ الأمر أُخرج من يد جدي بعد أحداث عام (1982) وأعطي لأناس موالين للنظام، مع أنه لا صلة لهم بالأيوبيين من قريب ولا بعيد!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق