الأحد، 5 مايو 2013

بلدة البيضاء


بلدة البيضاء في ريف بانياس:
لك الله أيتها البيضاء الغردة الطهور!
لك الله يا بلدي الحبيبة التي عشت فيها واحداً وعشرين شهراً، كانت من أجمل وأمتع أيام شبابي.
لك الله أيتها الحصن الحصين في وجه التغريب والعلمانية والفساد!
لك الله أيتها الروضة الغناء الوارفة الظلال!
رحم الله شهداءك الأبرار وشهيداتك النبيلات العفيفات الطاهرات!
ولعنة الله على القتلة المجرمين الظالمين في كل وقت، وفي كل حين.
ولي ذكريات جميلات بديعات في تلك البلدة النبيلة الصامدة.
عسى أن يقيض الله لي الوقت لأكتب موجزاً عنها، فهي أنموذج رائع في الدعوة إلى الله تعالى.
في بداية عام (1973) أصدر وزير الداخلية السوري قراراً، بُلّغ إلى مديرية التربية في مدينة حماة، وقرأه عليّ أستاذي الفاضل عبدالكريم عطري مدير التربية آنذاك، وخلاصة ما أذكره منه:
(يمنع المكلّف عداب محمود الحمش من التعاقد والعمل لدى جميع مؤسسات ودوائر الدولة).
وكنت صاحب أسرة أحتاج إلى بعض النفقة عليها، لكن كان علي التزامات مالية لجهات متعددة من وجوه الخير، فماذا أصنع؟
رجوت الوالد أن يسمح لي بقطعة من أرضه الزراعية لأزرعها وأرتزق منها... وبعد مجاهدات قام بها أعمامي وافق فمكنني من زراعة واستثمار (34) دونماً، والدونم الشامي (1000م) بينما الدونم العراقي (2500م).
وبعد مرور موسم الصيف الممتاز؛ أعددت العُدة لموسم الشتاء الأكثر عائدة من موسم الصيف.
فأعددت كلّ شيء، وزرعت ثمانية دونمات شتوي، ونضجت قبل أوانها على نحو فوق المعتاد، ولذلك قصة طويلة.
وقُبيل رمضان من ذلك العام انتدبني الشيخ سعيد حوّى رحمه الله تعالى لأخلف أخي وزميلي فضيلة الشيخ محمد غياث الجنباز في قيادة العملية الدعوية في بلدة البيضاء، من إمامة وخطابة وتدريس ودعوة وتنظيم... إلخ!
وزار الشيخ سعيد حوى والدي رحمه الله تعالى ورجاه، حتى سمح لي بالسفر إلى البيضاء العظيمة ومعي زوجتي وطفلتي دجانة.
وقد قمنا بمجالات عديدة من الدعوة إلى الله، وكتب الله على أيدينا ما شاء من الخير في هذه البلدة وما حولها.
كانت الغلبة في هذه البلدة لأهل الدين، ولم يكن أحد من الفساق يجرؤ على إعلان فسقه، كما لم أشاهد فيها امرأة سافرة قط!
وأطرف حادث كان في هذه المرحلة من حياتي أنّ إحدى زوجات إخواننا في البيضاء زارت زوجتي أم محمود في بيتنا، فرأتها تبكي!
وعرفت منها أنني وبّختها وضربتها!
فاستفسرت منها عن سبب ذلك؟
فقالت لها: الشيخ أصلحه الله حادّ المزاج جداً، ويريد لطلبه أن ينفذ بكلمة (كن!) وقد تأخرت قليلاً بتجهيز طعام الغداء لضيوفه الدائمين بسبب حاجة الطفلة إليّ، فصبر حتى ذهب الضيوف ووبخني وضربني.
وعقب صلاة العشاء من ذلك اليوم أو اليوم الذي يليه؛ طلب مني أعضاء لجنة المسجد زيارتي في البيت.
وحين دخلوا؛ قام كبيرهم الأخ الفاضل أبو صلاح الشغري، وخطب خطبة طويلة بيّن فيها حقّ المرأة على الرجل، ثم قال لي: أنت شيخنا ورئيسنا ومرشدنا، وقد ارتضيتنا مجلس شورى لك، ومن عادتك أنك لا تستبد في رأيك، وأنك تمتثل أوامر الشرع لك وعليك أليس كذلك؟
قلت: إن شاء الله تعالى!
قال: وصلتنا شكوى من زوجتك أختنا وبنتنا أمّ محمود أنك تضربها وتوبخها، فهل هذا صحيح؟
قلت: هي كلمتكم بشكواها؟
فحدثوني بأن إحدى نسائهم زارتها، وكان ما ذكرته سابقاً!
فأقررت بذلك كله!
قالوا: إذن لا حاجة إلى سؤال أم محمود!
قلت: لا حاجة إلى ذلك، بل لا أسمح بذلك، ولا أسمح أن يسمع صوت زوجتي رجل تحت أي ظرف من الظروف!
قالوا: ما دمت قد اعترفت بكل ما نُقل إلينا؛ فسيد الأدلة الإقرار!
ونحن سنقدر عقوبة لك على ضربك زوجتك وإهانتها، فهل تقبل بحكم الشرع؟
قلت: قبولي بحكم الشرع واجب من المحال أن أفكر بتجاوزه، لكني سأرضى بعقوبتكم أنتم لي؛ لأنكم لا تمثلون الشرع، فجميعكم ليس من أهل العلم المتخصص!
فقالوا: اذهب إلى غرفة زوجتك حتى نناديك لو سمحت!
فخرجت وتداولوا فيما بينهم العقوبة، ثم نادوني، وقال الأخ أبو صلاح: لقد قرر مجلس شوراك في حقك ما يأتي:
أوّلاً: أن تعاهدنا عهد الله أن لا تضرب أمّ محمود ما دمت شيخا لنا في هذه البلدة، حتى تبقى كبيراً في نظرنا؛ لأنه من غير المعتاد عندنا أن يضرب أحد من أهل الدين زوجته أو يشتمها.
فعاهدتهم على ذلك.
ثانياً: قررنا أن تحضر هديةً لأم محمود قطعة ذهب، ولو كانت خاتماً.
فوافقت على ذلك؟
ثالثاً: أن تعتذر من أم محمود وتطلب منها المسامحة الآن!
ففعلت ذلك.
رابعاً: قررنا جلدك عشر جلدات على قدميك!
أطرقت قليلاً، ثم قلت: قد وعدتكم أن أقبل بحكمكم، وسأقبل لكن ما مثل عداب الحمش من يجلد!
ربطت كمّي سروالي بخيط، ورفعت رجليّ فجلدوني عشر جلدات متوسطة القوة.
تأثرت كثيراً من فعلتهم هذه، لكنني صبرت احتساباً وقدوةً.
وبقيت واحداً وعشرين شهرا عندهم، صنعنا فيها الكثير، ثم اشتدّ طلب المخابرات لي، حتى لم يبق إلا المواجهة المسلحة أو ترك البلدة!
فاستشرتهم بذلك، فقالوا: نحن فداك!
إن شئت أن نقاوم حتى آخر رجل فينا؛ فعلنا، فأنت شيخنا وما تقرره نلتزم به كما عهدتنا!
فأقنعتهم بأنّ قتلي أهون عندي من أن يسجن واحدٌ منهم فضلا عن أن يقتل لا سمح الله!
وخرجت من القرية إلى دمشق بصحبة وكيل وزارة الخارجية الفاضل الأستاذ محمد الشغري، وكان من أهل البلدة، وهناك رتّب لي أموري الأمنية، وعُيّنت مدرساً في ثانوية ابن العميد.
أسأل الله تعالى أن يحمي هذه البلدة المباركة وأن يبارك بأهلها الشجعان الكرام، وأن ينصر الحق على الباطل في بلدنا سوريا الحبيبة إنه هو حسبنا ونعم الوكيل، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وعظم الله أجوركم يا أهل البيضاء ويا أهل بانياس بشهدائكم الأبرار.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق