الأربعاء، 8 مايو 2013

حكايات جدتي سكينة/ الحكاية الأولى



حكاية جدتي سكينة:
جدتي لأبي هي الخاتون فاطمة بنت عبدالقادر زمزم الأيوبية توفيت رحمها الله تعالى عندما بلغت أربعين يوماً في هذه الحياة الدنيا، يعني توفيت بتاريخ (18/1/1950م) أما جدتي سكينة بنت مصطفى بن أحمد الولي العمري فتوفيت عام (1961م) فقد كانت من حفظة كتاب الله عزّ وجلّ، ومجازة بإقرائه على رواية حفص عن عاصم، وكان لها درسان في الأسبوع تلقيهما على نساء أحياء المدينة والجراجمة والباب القبلي.
كانت شخصيتها قوية، وكانت والدتي إذا كلمتها؛ طأطأت رأسها وأغمضت عينيها احتراما لها.
ومن قوّة شخصيتها أنها أشرفت على تحفيظ بناتها الخمس وولدها الوحيد، خالي سعيد القرآن العظيم، وكلهن مجازات بإقرائه.
لم تكن والدتي على وفاق كبير مع والدي، رغم حبها الشديد له وحبه الشديد لها؟!
والسبب في ذلك أن بيئة والدي بيئة ريفية فلاحية، وبيئة والدتي مدنية، وقد تربت والدتي تربية مدللة، وكانت قبل زواجها من والدي تقرئ الصبايا القرآن الكريم، وتعلمهن صناعة السجاد العجمي وغزل الصوف.
لكنها لا تعرف عن أمور الفلاحة والزراعة وتربية المواشي شيئاً. حين تزوج والداي؛ كان والدي يدير ألف دونم زراعي هي كل ثروة ذرية الشيخ محمد الحمش، وكان يعمل مع والدي عدد من أبناء عمومته، بينما كان يعمل معهم عشرون عاملاً في الشتاء وأكثر من خمسين في موسم الحصاد وكانت خدمة هذه الأعداد الكبيرة من الرجال؛ تقوم بها نساء أسرة إبراهيم الحمش.
ولما تزوجت والدتي كان عليها أن تساعدهن في ذلك؛ إضافة إلى خدمة بقرتين مقيمتين عندنا في الدار، وستة بغال، وحمارين، وأربعة خيول!
كانت طبيعة والدي قاسية عنيفة، وكان بدنه قويا إلى حدّ الإفراط، فلم يكن يتصور أن زوجته هذه لا تستطيع أن تقوم بواجباتها تجاه زوجها ومن يحيط به، وإنما هي كسولة تحرجه مع بقية أخواته وإخوانه ونسائهنّ.
وكان لي مع جدتي سكينة ذكريات صغيرة تعدّ من أوائل ما أحفظه جيداً عن تلك المرحلة المبكرة من حياتي،
الذكرى الأولى:
كان لجدتي سكينة درسان: أحدهما في الجامع الكبير في حيّ المدينة، والآخر في جامع الشيخ داخل في حيّ (الولي) المنسوب إلى جدها الشيخ عمر بن حسين العمريّ الشهير بالولي.
كانت والدتي في زيارة جدتي، وكان لي من العمر سبع سنين، وكنت محرم والدتي في كلّ زياراتها إلى بيت والدها محيي الدين النشتر الأيوبي.
دخلنا منزل جدتي قبيل العصر، فوجدنا جدتي تهيئ نفسها للخروج من المنزل وأخبرتنا أنها ذاهبة لإلقاء درسها في الجامع الكبير، وسألت أمي عمّا إذا كانت قادرة على الذهاب معها، فاعتذرت إليها والدتي بخشوع وحياء بعذر النساء.
قالت جدتي: ما رأيك أن تكون محرمي الآن في هذا الخروج لأنّ خالك سعيد مشغول؟
قلت لها: أوصلك وأرجع؟!
قالت: كما ترى!
فخرجت مع جدتي فأمسكت بيدي، وصارت تنشد لي أناشيد طفولية تعبر بها عن حبها لي، واهتمامها بي حتى وصلنا المسجد الكبير، قبيل وصولنا بخطوات قالت لي: مَن سيرجعني إلى البيت يا عدوبي الحبوبي؟
انتظر في المسجد حتى أنتهي من درسي، فأرجع بصحبتك فأنت رجل بطل، ويمكن أنني أخاف الرجوع وحدي!
فذهبت هي إلى مصلى النساء، فيما يسمى المقصورة، ودخلت أنا إلى المسجد وصليت مع الناس.
بعد الصلاة خرجت من المصلى، وقد أمسكت مصحفاً ورحت أقرأ فيه سورة لم أكن حفظتها بعد من جزء تبارك وأدور حول البحرة الكبيرة في المسجد.
بعد نصف ساعة من انتهاء الصلاة تقريباً؛ جاءت إليّ جدتي وقالت: تعال معي إلى مقصورة النساء، فاعتذرت منها استحياءً منهنّ!
قالت لي: ألم أقل لك: أنت رجل، وأنت محرمي، أما رأيت الشيخ صالح النعمان يلقي الدروس على النساء في المرة السابقة؟
قلت: بلى! لكن الشيخ صالح كبير، وأنا صغير أستحيي منهنّ.
قالت: بل أنت كبير جداً، تعال حتى تشهد لك جميع النساء بأنك كبير!
طال الجدال بيني وبين جدتي، ثم رأيت نفسي مضطراً إلى مطاوعتها فدخلت.
حين دخلت كان هناك خمس بنات في سنّ الثالثة عشرة إلى السادسة عشرة حتى ما أتخيله الآن، فوقفت جدتي عليهنّ، وقالت لهنّ: يا بنات حضر الشيخ عداب ليعلمكن تلاوة سورة البروج، فاسمعن له وأطعنه!
وقالت لي: اجلس علّمهن سورة البروج كما رأيتك تعلّم أختك ليلى!
قلت: ليلى أصغر مني، وهؤلاء البنات كبار، حرام أنا أجلس بينهن!
قالت: لا ليس حراماً، فالشيخ يجوز له أن يعلم البنات، مثل ما أقول لك افعل، وإلا أزعل منك!
جلست أمام البنات اللواتي فيما يظهر لي غمزتهن جدتي المهيبة، فاحترمنني جداً، وكنّ صامتات لم تضحك واحدة منهنّ، ولم تلتفت إحداهنّ يمنة أو يسرة.
فقرأت أمامهنّ سورة البروج، وسردت معاني كلماتها الغريبة كما تعلمتها من شيخي الجليل الشيخ عارف النوشي الداودي.
ثم قلت لمن على اليمين: اقرئي أنت! فقرأت (بسم الله الرحمن الرحيم) فقلت: لازم التعوّذ قبل البسملة!
فاستعاذت وبسملت، فأشرت إليها أن تقف، وقلت لها: هذه القراءة حرام، ردّي ورائي!
فقرأت الاستعاذة والبسملة عدة مرات حتى تحسنت قراءتها لهما قليلاً، فقلت لها: يبدو لن تتعلميهما حتى أذان المغرب! فخجلت البنت وضحكت بقية البنات!
فقلت للثانية: اقرئيهما أنت، ثم للثالثة، ثم للرابعة، ثم للخامسة، وإذا بهنّ جميعاً لا يجدن تلاوة الاستعاذة والبسملة، فقلت لهنّ: لماذا لا تعلمكنّ أمهاتكنّ تلاوة القرآن، كيف تقرأن القرآن في الصلاة إذن، صلاتكن باطلة!
فقالت واحدة منهنّ: أمهاتنا مثلنا لا يعرفن تلاوة القرآن يا شيخنا!
قلت: كيف لا يعرفن؟ هل يوجد مسلم لا يعرف تلاوة القرآن؟ أنا منذ سنين أقرأ جزء (عمّ) كلّه، والآن أحفظ جزء تبارك، أليس كلّ المسلمين يقرؤون القرآن؟
قالت واحدة أخرى: هل لك إخوة؟ قلت: لا! لكن إن شاء الله الوالدة وعدتني أن تلد لي أخاً بعد سنة!
فقالت وهي تبتسم: هل لك أخوات؟ قلت: نعم، وهما تقرآن أحسن منك بكثير!
قالت: ماذا نصنع يا شيخنا! نحن أتينا هنا لتعلمنا الشيخة سُكينة، فقالت لنا: سآتيكم بشيخ يعلمكن القرآن حتى أعلّم أنا كبيرات السنّ، وأنت مللت منا، ولا تريد أن تعلمنا، فإذا كانت صلاتنا باطلة فأنت ستدخل النار معنا!
فقلت لها: أنا أعلمكنّ، لكن أنتن لم تتعلمن!
قالت: اصبر علينا قليلاً، وسوف نتعلم إن شاء الله!
لم أكن بطبيعة الحال أعرف كيفية التعليم، لكنني كنت أقرأ أمامهن ويرددن ورائي، ثم تعيد كل واحدة منهن لوحدها.
وانتهت الحصة الأولى وقد تعلمت البنات الخمس الاستعاذة والبسملة والآية الأولى (الحمد لله ربّ العالمين).
كان أكثر أخطاء بنات تلك الجلسة في ترقيق الراء حيث جاءت، وعدم ضبطهن مخارج الحروف.
جاءت جدتي، فوقفت علينا، وقالت للبنات: كيف كان درسكم؟
قلن: درس جيد مع شيخنا الجديد، لكنه عصبي!
قالت لهن: لا هو ليس عصبياً، وإنما هي حرقته على الدين، وكيف أنكن لا تعرفن القراءة حتى الآن.
وحين قمت للانصراف مع جدتي مدّت إحدى الطالبات يدها لتصافحني، فنهرتها قائلاً: حرام حرام، لمس المرأة يدخل النار!
قالت وهي تضحك جداً: أنا لست امرأة، وأنت لست رجلاً!
فنهرتها مرة أخرى وقلت: بل أنا رجل، اسألي جدتي! فاستدركت وقالت:
صحيح أنت رجل، لكن أنا بنت ولست امرأة!
فالفتّ إلى جدتي لتجيب عني، فلم أعرف ما أجيبها!
تبسمت جدتي وقالت: في الدرس القادم حضّرن جيّداً حتى يعلمكن الفاتحة وسورة البروج، وأخذت بيدي وانصرفنا.
كانت جدتي تخاف من حدتي جداً، وخشيت أن أضرب واحدة من البنات، فتخجل كما أخبرتني بعد خروجنا من المسجد، فقلت لها: إذا كان لا يجوز أن أصافحهن، فكيف أضربهنّ، أليس حراماً؟
قالت: طبعاً حرام!
قالت: لم لا تقول لأبيك: إنّ ضرب النساء حرام؟!
قلت لها: أبي لا يضرب إلا أمي، ويجوز له مصافحتها!
فضحكت جدتي في الطريق، حتى كاد صوتها يُسمع!
فغضبت أنا وخلّصت يدي من كفها واستدرت لأذهب إلى بيتنا؛ لأنها تهزأ بي كما فهمت!
فنادتني وارتفع صوتها قليلاً، فلبيت نداءها لئلا يسمع الناس صوتها في الشارع فقط!؟
وحين أمسكت بيدي شدّت عليها بقوّة وقالت: تزعم أنك صاحب دين، وتترك جدتك تسير في الشارع بدون محرم؟ سأشكو عليك لوالدك!
قلت لها: أتوب إلى الله سيدتي، لا تقولي لوالدي، والله يذبحني!
قالت: إذا جئت معي في الدرس القادم؛ فلن أقول له.
فوعدتها أن أحضر في الدرس القادم، إن شاء الله تعالى.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق